حديث ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
ليس الشديد بالصرعة
الصرعة: فعلة وتطلق على فاعل الشيء.
فالصرعة: أي المصارع الذي يصرع الناس، ومثله أن يقال: فلان ضحكة، أي: إنسان يستهزأ به، فهو ضحكة يسخر به بين الناس.
ومثله قوله تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة:١] فالهمزة الإنسان الذي يهمن في الغير ويطعن فيه، ليضحك عليه الناس.
واللمزة: الإنسان الذي يتكلم على غيره.
فالهمزة يتكلم أمامه، واللمزة يتكلم من ورائه ويلمز فيه، فاللمزة كأنه فاعل اللمز، والهمزة كأنه فاعل الهمز، والضحكة كأنه فاعل الضحك، والصرعة كأنه فاعل المصارعة وكل هؤلاء يطلق عليهم هذه الصيغة (فعلة).
فهنا قال: (ليس الشديد بالصرعة) يعني: ليس الشديد الذي يصرع الأبطال، (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فالذي يصرع غيره شديد وقوي، ولكنه ليس هو الذي له الشدة وله الأجر عند الله عز وجل، وليس هو الموصوف عنده أنه شديد في دينه، وإنما الشديد في دينه هو الذي يملك نفسه عند الغضب.
الغضب معروف لا يحتاج إلى بيان، وبيانه كبيان الماء، الغضب خروج النفس عن حد الاعتدال بسبب المثير، والغضب غريزة موجودة عند الناس، لكنهم يتفاوتون فيها، فمن الناس من يثور لأدنى سبب، ومن الناس من يثور لغير سبب، ومنهم من لا يثور، ومنهم من يغلي قلبه بالغضب لأتفه الأسباب، ومنهم الحليم الذي اتصف بالحلم والأناة، كالأحنف، وممن وصف بذلك معن بن زائدة المشهور، حصل رهان بين اثنين إن أغضبه فله كذا وكذا من الإبل، فجاء إليه وسبه بأبشع أنواع الهجاء والذم بالشعر المحفوظ إلى اليوم، ومع ذلك يعرض عنه إلى أن أيس من إغضابه، وهذه منة ونعمة، لكن هناك مواقف لا بد فيها من الغضب لا سيما إذا انتهكت محارم الله -جل وعلا-.
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
لا سيما بعض الناس إذا ما تعومل معه معاملة تردعه عن بعض تصرفاته يسترسل، فمثل هذا لا بد أن يكف، ولا شك أن الغضب غريزة، ويزيد مع عدم الكف، وعدم خزم النفس، والحلم بالتحلم، يعني مع الوقت تجده يتصف بهذا الخلق، وإن لم يكن متصفا به قبل ذلك، كما أن العلم بالتعلم، كذلك الحلم بالتحلم، والفقه بالتفقه.
"أن رجلا أتى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن" كلمات "ولا تكثر علي فأنسى" مثل الذي قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: "إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأرشدني" هنا: "علمني كلمات أعيش بهن، ولا تكثر علي فأنسى" يعني لو علمه حديثا طويلا يشتمل على جمل كثيرة يمكن ينسى بعضه، لا سيما وقد عرف من نفسه ضعف الحافظة.
"ولا تكثر علي فأنسى، وأعيش بهن" يعني أنتفع بهن في معيشتي في ديني وفي دنياي "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تغضب)) " وأي نصيحة أبلغ من هذه النصيحة، وكم للغضب من آثار على الشخص نفسه، وعلى غيره، والغضب مؤثر تأثيرا بالغا في صحة الإنسان، وله أيضا آثار متعدية تصل إلى حد القتل، تصل إلى حد القذف، تصل إلى حد أن يقول كلمة لا يلقي لها بالا أثناء غضبه يهوي بها في النار سبعين خريفا -نسأل الله السلامة والعافية-، وكمن إنسان شتم الدين بسبب الغضب، وكمن إنسان وقع في عظائم الأمور بسبب الغضب، ولذا الغضب من الشيطان، فإذا وجده الإنسان فليغير وضعه، إن كان واقفا فليجلس، وإن كان جالسا فليضطجع أو ليقف، المقصود أنه يغير وضعه، وإن توضأ؛ لأن حرارة الشيطان إنما تطفأ بالماء.
قال: "وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس الشديد)) " ليس الشديد القوي ((بالصرعة)) يعني الذي يصرع الناس ليس هذا هو الشديد، ليس هذا هو القوي، ليس هذا الذي يمدح بقوته، جاء في الحديث الصحيح: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) وما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- الرجل القوي، قال: المؤمن، يعني القوي في إيمانه، ((خير من المؤمن الضعيف)) في إيمانه، ويتبع ذلك ما يتطلبه الإيمان من قوة في البدن، وإعداد للعدو، وما أشبه ذلك، هنا يقول: ((ليس الشديد بالصرعة)) الذي يصرع الناس، وهذا البناء صرعة لاسم الفاعل صرعة، يعني ضحكة، همزة، لمزة، الذي يصرع الناس، لمزة الذي يلمز الناس، همزة الذي يهمز الناس.
بعض التراجم، تراجم الأئمة يقولون: الإمام العالم، المتفنن، الرحلة، رحلة، هذا اسم المفعول، يعني يرحل إليه، ورحلة يعني يرحل اسم الفاعل.
((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) يستعيذ بالله من الشيطان، ويتوضأ ويترك هذه الآثار المترتبة على الغضب، ولا يرتب عليه ما يتطلبه الغضب عند دخول الشيطان من قتل، من سفك دم، من كلام بذيء، كثيرا ما يحصل الطلاق بسبب الغضب، ثم بعد ذلك الندم، وكلام أهل العلم في طلاق الغضبان معروف.
المقصود أنه مسبباته كلها أو جلها سيئة، يندم عنها بسرعة، أو يندم صاحبها بسرعة، فعلى الإنسان أن يملك نفسه عند الغضب، وقد يقول الإنسان: هذا شيء لا أستطيع أن أملك نفسي، أنا جبلت على الغضب، لكن الحلم بالتحلم، ومع ذلك أثر عن بعض الصحابة أنه كان شديد الغضب لكنه وجه من قبل النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى كثرة الاستغفار، وعليه أن يتحلم، وينظر في عواقب الأمور قبل أن تصدر عنه، وإذا حصل منه أو بدر منه شيء مما لا تحمد عقباه لا بد أن يتحمل المسئولية، فإذا غضب وتكلم في حق فلان أو علان لا بد أن يذهب إليه، ويستسمحه، ويستبيحه ويستحله مما حصل منه، والله المستعان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: "لا تغضب، فردد مرارا قال: لا تغضب" رواه البخاري.
قال الحافظ في الفتح: "قال الخطابي: معنى قوله: "لا تغضب" اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه؛ لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة"، وقال أيضا: "وقال ابن التين: جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تغضب" خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين".
مدح الله الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"رواه البخاري ، وعلى المرء إذا غضب أن يكظم غيظه، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كما في البخاري، وأن يجلس أو يضطجع
هل يستحب السكوت عند الغضب؟
الجواب
لا شك أن السكوت وعدم الكلام فيه السلامة؛ ولا أذكر فيه نصا، كما أن السكوت يمنع الإنسان من الانطلاق في الكلام البذيء أو القبيح، وإطلاق العنان للسان، وكون الإنسان يتمكن من السكوت والصمت ويملك نفسه فهذا أمر محمود، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، وقوله: (ليس الشديد بالصرعة)، الشديد: هو القوي الذي عنده قوة في جسده ويصارع الرجال ويصرعهم، فليس هذا هو الشديد حقيقة وإن كان شديدا؛ ولكن الشدة الحقيقية هي في الذي يملك نفسه عند الغضب، هذا هو الذي شدته وقوته حقيقية ولا شك أن من يملك نفسه فإنه يسكت؛ لأنه لو أطلق لسانه فقد يتكلم بكلام قبيح، وقد يتبع القول بالفعل، ولكنه إذا صمت وسكت لا شك أن هذا فيه كظم للغيظ، وفيه منع للسان من إطلاقه فيما يعود عليه بالضرر.