الخلاف في جمع الصلاة عند المذاهب الأربعة
لقد رخص لنا الشارع الحكيم بجمع الصلوات إلى بعضها في السفر وجاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيفية هذا الجمع ومدته وأسبابه، وكذلك رخص الشارع للمريض في الصلاة أن يصليها على الهيئة التي يستطيعها إما قائما أو قاعدا أوعلى جنب.
الترجيح بين الأقوال المختلفة في جمع الصلاة في السفر
قال المصنف: [ولـ أبي نعيم في مستخرج مسلم : ( كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل ) ] .
زادنا المصنف رحمه الله أيضا رواية أخرى في المستخرج على مسلم مثل ما جاءنا به عن الحاكم ، والحمد لله.
قال المصنف: [وعن معاذ رضي الله عنه قال: ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا ) رواه مسلم ].
هذه عجيبة! فبعدما أتى بحديث أنس في الصحيحين ورواية الحاكم والمستخرج على مسلم ، جاءنا بحديث معاذ يروي: ( أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان يصلي الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا ) فقوله: (جميعا) هل هي جمع تقديم أم جمع تأخير؟! الجواب: يحتمل الاثنين! إذا: إذا وجد احتمال بطل الاستدلال.
ولكنهم يقولون: ومع الاحتمال فإن قوله: (صلى الظهر والعصر جميعا) يشعر بالتأخير، (وصلى المغرب والعشاء جميعا) يشعر بالتأخير، وبعضهم يقول: بل يشعر بالتقديم.
إذا: حديث معاذ لم يعين حقيقة الجمع ما بين تقديم أو تأخير، لكنه يثبت عموم الجمع (جمع الظهر والعصر جميعا) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير، (والمغرب والعشاء جميعا) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير.
إذا: حديث معاذ يثبت وجود الجمع بين الصلاتين .
أدلة القائلين بمنع الجمع مطلقا
وهنا يسوق المؤلف حديث معاذ رضي الله عنه ردا على الإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقول بمنع الجمع مطلقا لا تقديم ولا تأخير، فإن قيل له: وهذه النصوص ما تعمل بها؟ قال: إنما كان جمعا صوريا.
معاذ رضي الله عنه لم يقل: أخر وقدم، أو: صلى في آخر هذه وأول هذه بل قال: (صلى الظهر والعصر جميعا) وجميعا تدل على أنهما مجموعتين في وقت إحداهما، وهذا هو الظاهر.
وهنا يقال: بم استدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله على منع الجمع مطلقا وحمل الحديث على الجمع الصوري؟ يقول الأحناف: الأصل في الصلوات الخمس أن تصلى في أوقاتها: ( أفضل الأعمال إلى الله: إيمان بالله، والصلاة على وقتها ) ، وقال تعالى: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } [النساء:103].
وجبريل عليه السلام نزل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في أوقاتها، والأعرابي الذي جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلاة فقال له: ( صل معنا اليوم وغدا ) ، وصلى، فأوقع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في اليوم الأول على أول وقتها، وأوقع الصلوات الخمس في اليوم الثاني على آخر وقتها، إلا المغرب صلاه في اليوم الثاني في الوقت الذي صلاه في اليوم الأول، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله، قال: ( ما بين هذين وقت ) يعني: جعل كل صلاة في وقتها، وبين المسافة بين أول الوقت وآخره.
فقالوا: هذه أمور قطعية بإجماع الأمة، فالخروج عنها يحتاج إلى قطعي مثله، وهذه الأحاديث كحديث معاذ وغيره أحاديث آحاد، ولا يمكن ترك القطعي إلى الآحاد.
واستدلوا بقول عبد الله بن مسعود وهو أكثر الناس تمسكا بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا؛ فقد جاء عنه عند بعض أصحاب الحديث: ( والذي يحلف به ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة لغير وقتها إلا الظهر والعصر في عرفات، والمغرب والعشاء في جمع، والصبح صلاه في أول وقته ) فأخذوا بهذا الحديث، وقالوا: هذا يحلف أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة في غير وقتها، وأنتم تقولون: قدموا وأخروا.
الرد على أدلة المانعين من الجمع
والجمهور يقولون: صح من فعله صلى الله عليه وسلم بهذه النصوص الصحيحة، أنه كان يجمع بين الصلاتين.
وقالوا:إن أحاديث الجمع بين الصلاتين تقيد المطلق من تلك النصوص القطعية التي جاءت في بيان أوقات الصلوات الخمس، فهذه خصصتها.
أي: أن تلك الأوقات في الصلوات الخمس في الحالات العادية، وأن الجمع في خصوص السفر، وحالة السفر خاصة من عموم حالات الصلاة العادية، وبهذا أخذ الجمهور بجواز الجمع بين الصلاتين، ولكنهم يختلفون بين أن يكون جمع تقديم أو جمع تأخير.
فـ ابن حزم قال بجمع التأخير فقط، و أحمد و الشافعي قالا بالجمع في الحالتين تقديما وتأخيرا.
و أبو حنيفة رحمه الله ليس عنده جمع إلا في الحج، فقال: الجمع بعرفات والمزدلفة ثابت وصحيح، وقال: إن الجمع في عرفات وفي مزدلفة من مناسك الحج وليس من أجل السفر، واستدل بفعل أهل مكة معهم، فقال: أهل مكة ليسوا بمسافرين، وقال: حتى من كان يسكن في أرض عرفات فله أن يجمع مع المسلمين إن كان حاجا، فمن حج من أهل منى، ومن حج من أهل المزدلفة، ومن حج من أهل عرفات فله أن يجمع مع الحجاج؛ لأن الجمع نسك عند الأحناف.
والجمهور يقولون: الجمع من أجل السفر وليس من أجل الحج.
مذهب الإمام مالك في الجمع
وهناك بقي علينا مذهب مالك ، فـ مالك رحمه الله جاءت عنه روايات: أولا: رواية كراهية الجمع، فقال: أن يصلي كل فرض في وقته في سفره أولى.
والرواية الثانية: الجمع بدون كراهية، ولكن قال: لا يجمع إلا لحاجة، كخوف أن تفوته مصلحة.
ورواية ثالثة: يجمع جمع تأخير فقط، كما قال ابن حزم ورواية رابعة يجمع جمع تقديم وتأخير بلا كراهية ولا حاجة.
إذا: مالك له روايتان في الجمع: رواية المنع ورواية الجواز، ومع هذا تفصيل، وهذا التفصيل ذكره عنه ابن عبد البر في التمهيد، فمن أراد أن يرجع إليه فهو في الجزء الثاني عشر، وذكره أيضا الخرشي على خليل في تفصيل مذهب المالكية.
إذا: هناك من قال: هو جمع صوري ولا يوجد جمع تقديم ولا تأخير.
وهناك من قال بجمع التأخير فقط ولا يوجد جمع تقديم عنده.
وهناك من قال بالجمع مطلقا تقديما وتأخيرا.
وهناك من جاء عنه التفصيل فيما يتعلق بالكراهية وعدم الكراهية، كما هو عند مالك .
نقض ابن عبد البر على من قال بالجمع الصوري
نرجع إلى من يقول: إنه جمع صوري، يقول بعض العلماء ردا على ذلك، وخاصة ابن عبد البر فقد ناقش المسألة نقاشا دقيقا وطويلا، قال: إن القول بجمع الصلاتين تخفيف، وإن تحري آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية فيه مشقة كبيرة.
والآخرون يقولون: المسألة ليست مسألة هندسية على الصفر والزاوية، بل المسألة تقريبية في الأوقات، فإذا نزل في آخر وقت الأولى وصلاها وتحرى دخول الثانية وهو في مجلسه ففيه تخفيف من كونه يتهيأ للصلاة مرة واحدة بوضوء واحد، ويأتي إلى محل الصلاة، فإذا كانوا جماعة فإنهم يجتمعون للصلاة جماعة، ويكون اجتماعهم واحدا، ففيه أيضا إرفاق، كما جاء في المستحاضة حيث، أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع الصوري.
وهنا يقول ابن عبد البر -ولم أره لغيره أبدا- إن القول بالجمع الصوري يتبعه منع الجمع الصوري في غير هذه الصور.
فمثلا: إذا قلتم: إن الجمع الصوري للتخفيف، وحقيقة الحال أن كل صلاة وقعت في وقتها، فيجوز أن يؤخر العصر لآخر وقتها، ويقدم المغرب لأول وقتها، ويجمع بينهما جمعا صوريا، وسيوقع كل صلاة في وقتها، وأنتم تمنعون ذلك، فلم المنع؟ فإن قلتم: لأنها لا تشترك معها في الوقت؟ قلنا: نحن لم نجمع حتى تقولوا ذلك، وطالما أنكم قلتم إن الجمع صوري فندعها على الصورية هذه، وما دام أن كل صلاة وقعت في وقتها فلا جمع، والإنسان لو أخر صلاة العصر إلى آخر وقتها، ولم يبق عن غروب الشمس إلا مقدار ركعتين، فصلاته أداء، فإذا دخل وقت المغرب صلاه في أول وقته وأنتم تقولون: إذا أخر صلاة العصر لشغل أو نسيان كما لو نام وقام قبل الغروب بما يسع ركعة فإنها تعتبر أداء وليست قضاء، فلماذا هنا لا تتركونه يأتي بالمغرب في أول وقتها والعصر في آخر وقتها؟ قالوا: هذه بعذر، ولماذا يأتي بها في أول الوقت بدون عذر؟ ونحن هنا لا نناقش المسألة، لكن نورد كلام ابن عبد البر ، وهو كلام دقيق جدا، فإذا كانت القضية ستدور على الجمع الصوري وكل صلاة ستقع في وقتها، فما الذي يمنع أن يجمع جمعا صوريا بين العصر والمغرب، وأنتم تمنعون ذلك بالإجماع؟! إذا: الجمع الصوري لا قيمة له، ولا يتمشى مع هذه النصوص الموجودة، لأنه لو كان على الصورة فالصورة تقع في غيرها، وأنتم لا تقولون بذلك.
إذا: الجمع الصوري لا وجود له في الحالات العادية، أما المستحاضة فلمرضها، وسيأتي التنبيه على هذه القضية؛ فالمرض أو الحاجة في حديث ابن عباس يأتي فيما بعد إن شاء الله.
إذا: الجمع بين الصلاتين في السفر جائز أم ممنوع؟ جائز جاءت به السنة، وله صور ثلاث: الأولى تقديم، والثانية تأخير، والثالثة صوري، والذي قال بجمع التأخير فقط ابن حزم وشيخه داود ، وقال بجمع التقديم والتأخير معا أحمد و الشافعي ، والذي منع من الجمع وقال بالجمع الصوري أبو حنيفة ، و مالك رحمه الله جاءت الرواية عنه مختلفة.
شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى