اللهم إني أعوذ بك من البخل و الجبن شرح الحديث
شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من البخل ...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
[وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر )، رواه البخاري .
تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن والبخل
تقدم الكلام على طرفٍ من هاتين الخصلتين المقترنتين: البخل والجبن، وتبيّن لنا أن البخل من أشد الأدواء، ويذكر بعض الناس عوامل قد تطرأ على الإنسان تُبخله، إما كثرة عيال وإما قلة المال، ولكن الحد الوسط في هذا هو: ألا يمتنع عن حق شرعي يتعلق بالمال؛ فإذا كان يؤدي حقوق الله فيما في يده من المال من زكاة أو مساعدة ضعفاء أو إحسان إلى الجار أو صلة ذي رحم؛ فلا يقال: إنه بخيل، ولكن إذا كان يمسك عن الواجب الذي أوجبه الله عليه شحاً بماله فهذا هو البخيل، كما أن الإسراف هو: أن يُبذر المال في غير وجهه، كأن ينفقه في أدوات لهو أو لعب، أو ما لا يجوز له شرعاً، أو يعطيه السفهاء يبذرونه ويضيعونه، فهذا تبذير ولا يجوز.
وكلا طرفي الأمور ذميم إفراط أو تفريط هذا مذموم، لكن توسط واعتدال هذه هي الفضيلة.
أما الجبن: فيرى بعض الناس أنه لا يستطيع الجبان أن يتكلف الشجاعة، ولا أن يتدرب ويكتسبها، قد يستطيع البخيل أن يتخلص من بعض شدة الشح عليه ويبذل، ولكن الجبن غريزة ذاتية لا يستطيع أن ينفك عنها، ويذكرون عن حسان رضي الله تعالى عنه الجبن، وهو الذي يُظهر الشجاعة في أشعاره، وهو القائل: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يتهدد قريشاً، وهو لا يستطيع أن يقتل إنساناً، ويذكرون في غزوة الخندق لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالصحابة إلى حفر الخندق، خافوا على النساء والأطفال من اليهود؛ لأنهم كانوا لا زالوا موجودين، وكان لـ حسان حصن منيع؛ فجمعوا النساء والأطفال في ذلك الحصن، ولفت نظر صفية رضي الله تعالى عنها أن رأت يهودياً يطوف بالحصن، فقالت لـ حسان : هذا يهودي يطوف بالحصن أخشى أن يطلع على ثُلمة فيؤذينا، انزل إليه فاقتله، فقال لها: ما أنا هناك يا ابنة عمي! وهي خافت على من عندها، فاحتزمت واعتجرت عمامة، وأخذت خشبة، ونزلت وترصدت به، فضربته على رأسه فقتلته، ثم قالت لـ حسان انزل وخذ سلبه، والله ما منعني أن آخذ سلبه إلا أنه رجل، قال: لا حاجة لي بسلَبه، فهذه حالة ما استطاع أن يتخلص منها.
ويذكرون في بعض مواقف الشجعان أن الشخص يكون من أشجع خلق الله، لكن في البداية قد يكون من أجبن خلق الله، فإذا ما زج به إلى الخطر كان كالأسد الهصور، ويقولون: إن بعض الصحابة كان في بعض الغزوات، وحاصروا أهل تلك الجهة، فإذا بهذا الشخص يقول: لفوني في لفائف وألقوا بي إلى العدو، فلما لفوه في اللفائف، أحدث على نفسه من شدة الخوف، ولكن لما ألقوا به وراء السور قام وقاتل العدو حتى فتح الباب للمسلمين، فهذه مسائل هبة لا يستطيع إنسان أن يتحكم فيها، ولا ينبغي أن يُعاب على إنسان ابتلي بشيء غريزي لا يستطيع أن يتخلص منه.
والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من هاتين الخصلتين مما يدلنا على أنها صفات مذمومة، ولكن يقول العلماء أو الأدباء -وهو عجيب-: البخل والجبن منقصة في الرجال ممدحة في النساء، ما كان نقصاً في الرجال يعابون به، فهو مدح في المرأة، كيف هذا؟ قالوا: المرأة البخيلة تحفظ مال زوجها في غيبته؛ لأنها تشح به، والمرأة الجبانة تخشى أن تخرج من بيتها فتبقى في بيتها، إذاً: الرجل البخيل مذموم، والمرأة البخيلة ممدوحة، وليس فقط بخيلة على عيالها أو زوجها، بل تكون بخيلة على الأجانب، وكذلك الرجل الجبان مذموم؛ لأنه يجب أن يكون شجاعاً ويقاتل ويحمي عرضه وماله ووطنه، إلى غير ذلك، والمرأة الجبانة هذه صفة مدح فيها؛ لأنها تخشى على نفسها أن تخرج ليلاً، أما في النهار فهي تحت أعين الناس، أما في الليل فالمرأة الجريئة تخرج ولا تدري ماذا يصادفها، إذاً: هما خصلتان مذمومتان في الرجال ممدوحتان في النساء.
الاستعاذة من أرذل العمر
الخصلة الثالثة التي كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منها، هي: أن يُرد إلى أرذل العمر، أي: يمضي به العمر، وامتداد العمر يرد الإنسان إلى أوله؛ لأن من وصل إلى أرذل العمر، يصبح قليل الإدراك، قليل القوى، ضعيفاً كالطفل سواء بسواء؛ فإذا وصل إلى ذاك الحد كان امتداد العمر به ومضيه به إلى الأمام كأنه في حلقة بدأ بالصفر وهو طفل لا يعي شيئاً، ومشى في الدائرة حتى جاء إلى القمة؛ فكان في قوته ومنعته وذكائه وفطنته بلغ جهده كاملاً، ثم بدأ ينحرف مع الدائرة حتى إذا وصلت به إلى نقطة البداية رد إلى ما كان عليه في ضعفه لا يفقه شيئاً، والشخص إذا كبر لا يحسن التصرف، وربما يبكيه الشيء القليل كالطفل، ولا يستطيع أن يُحكم أمره، ويكون في حاجة إلى قوامة عليه في أكله وشربه وما يحتاجه، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم أن يمتد به العمر إلى أن يواصل السير حتى يعود إلى ما كان عليه في بداية عمره، وهي حالات الطفولة، وإذا كان الأمر كذلك، فطول العمر مذموم: ( خيركم من طال عمره وحسن عمله )، ما دام أنه في حسن العمل فالحمد لله، وإذا وصل إلى حد يسقط عنه القلم لا يُحسن أن يصلي ويعقل أو يصوم ولا يدرك أن يزكي؛ فحينئذ لا يوجد عمل، ويكون طول العمر حينئذ عبئاً عليه، ونسأل الله السلامة والعافية.
والعمر رزق من عند الله، وليس لأحد فيه تصرف، ربما نسمع أن بعض الأشخاص تجاوز المائة، وهناك من عاش إلى مائة وخمسين إلى مائتين إلى ثلاثمائة سنة، ولا نبعد فنوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه فقط، وقبل هذا كم؟ لا نعلم، ويقولون: كلما طال الزمن كلما قصرت الآجال، فكانوا في السابق يعيشون المائة والمائتين والثلاث والأربع، والآن تقاصرت الأعمار، والله تعالى أعلم.
يهمنا في هذا: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من تلك الحالة، إذاً: وأنت في شبابك أو شيخوختك وقواك يجب أن تعمل؛ لأنك لا تدري فربما يمتد بك العمر حتى لا تستطيع أن تعمل؛ ولهذا كانت استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة، والله تعالى أعلم.
الاستعاذة من فتنة الدنيا
وقوله: ( وأعوذ بك من فتنة الدنيا )، كان يستعيذ صلى الله عليه وسلم من فتنة الدنيا، والفتنة الأصل فيها الوضع في النار، يقولون: فتنت الذهب، أي: أدخلته النار ليتميز الصافي والخالص مما علق فيه من معادن أخرى أو تراب أو غير ذلك، فالفتنة انتقل استعمالها إلى الشدة التي تظهر حقيقة الإنسان، وفتنة الدنيا يذكرون لها مجالات عديدة: إما في المال أو الأولاد أو التقاصر في العمل كل ما يمكن أن يشغل الإنسان عن واجبه فهو فتنة، فقد يكون الإنسان في مال، وولد، ومنصب، وعافية، وكل هذا امتحان وفتنة .
هل يكون في تلك الحالات محافظاً على الواجب مؤدياً لحق الله؟ أو هل ما بيده يزيده شراً ويتعدى به حده فيطغيه؟ بعضهم بالعافية يطغى على الضعيف فيؤذيه، أو بالمال يطغى ويتطاول على الفقراء، وبالجاه يتطاول ويزدري الآخرين، وهكذا.
وتقدم لنا في تفسير قوله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ } [البقرة:155]، أن هذا ابتلاء، وقد يكون الابتلاء أيضاً بالغنى، ليس بالنقص وإنما بالزيادة، والابتلاء بالزيادة أشده، سمعنا شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول فيه: علماؤنا يقولون: الفتنة بالغنى وبالصحة أشد ابتلاءً على الإنسان من الفتنة بالفقر والمرض لأن الفقير والمريض، لا يدري ما يفعل، لكن الفتنة بالصحة وبالمال شديدة، وذاك الذي يقول: إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة لم يقل: الهرم ولا الفقر، لا، إن الشباب والفراغ والجِدة بمعنى المال، شباب ومعه مال ومتفرغ، وليس معه شيء يضيع وقته فيه، ولا يصرف قوة شبابه فيه، معناها: أنه يعود على الناس بالبطش وبالإيذاء، والله سبحانه وتعالى بيّن { إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق:6-7].
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من فتنة الدنيا سواء بعرض من أعراضها أو بأي حالة من حالاتها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإياكم فتنة الدنيا.
الاستعاذة من عذاب القبر
قوله: ( {وأعوذ بك من عذب القبر ) .
تقدم بيان الاستعاذة من عذاب القبر وفيه إثبات وجود عذاب القبر بالفعل، والنصوص قد تقدمت في هذا،ومنها الإشارة من كتاب الله، وتقدم هذا الأمر بما يغني عن إعادة الكلام فيه.
ودائماً وأبداً يا إخوان! إذا وجدنا مقترنات متعددات مختلفة جاءت في حديث نبوي، ونعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم والحكم؛ فلو تأملنا في تلك المتعددات التي جاءت في نسق من حديث رسول الله نجد بينها ارتباطاً، وقد أشرنا إلى ما يقوله العلماء من الارتباط بين البخل والجبن؛ لأنهما مقترنان لا ينفكان؛ فكل بخيل جبان وكل جبان بخيل، بخلاف الشجاع والكريم، كل شجاع كريم، وكل كريم شجاع، ثم بعد ذلك أُرد إلى أرذل العمر؛ لأن الرد إلى أرذل العمر يجعل الإنسان في حالة لا يعي شيئاً مما حوله، وهو كالذي جمع البخل والجبن سواء، ثم يأتي بعد هذه الأشياء التعوذ من فتنة الدنيا سواء كانت في المال بالتبخيل أو بالتبذير والتعدي، أو كانت في الجبن من التقصير من الواجب أو التهور في التعدي على الآخرين، فجاء التعوذ من فتنة الدنيا ليعم كل ما تقدم، ثم جاء التعوذ من عذاب القبر لأنه النهاية، وهو البرزخ بعد الحياة.
شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم رحمه الله