شرح الاية 30 من سورة الفرقان باختصار
- أحدها : أنهم هجروه بإعراضهم عنه فصار مهجوراً ، قاله ابن زيد .
- الثاني : أنهم قالوا فيه هجراً أي قبيحاً ، قاله مجاهد .
- الثالث : أنهم جعلوه هجراً من الكلام وهو ما لا نفع فيه من العبث والهذيان ، قاله ابن قتيبة .
- { وَقَالَ الرَّسُولُ } مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفا على ذلك منهم: { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي } الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم، { اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } أي: قد أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه، قال الله مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
أَيْ قَالُوا فِيهِ غَيْر الْحَقّ مِنْ أَنَّهُ سِحْر وَشِعْر ; عَنْ مُجَاهِد وَالنَّخَعِيّ . وَقِيلَ : مَعْنَى " مَهْجُورًا " أَيْ مَتْرُوكًا ; فَعَزَّاهُ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسَلَّاهُ بِقَوْلِهِ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ "
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
- القوم : قوْم الرجل : أهله وعشيرته والمقيمون معه ويجمعهم : إما أرض ، وإما دين . وسُمُّوا قَوْماً لأنهم هم الذين يقومون على أمر الأشياء ، فهم الرجال خاصة؛ لأن النساء المفروض فيهن السكن والقرار في البيوت .
والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هذا الفرق في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } [ الحجرات : 11 ] إذن : فالقوم هم الرجال خاصة .
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر :
وَمَا أدري ولَسْتُ إخَالُ أَدْرِي ... أَقُوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ
- وقوله تعالى : { إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] أضاف القوم إليه صلى الله عليه وسلم لأنه منهم يعرفونه ويعرفون أصْله ، وقد شهدوا له بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق قبل أن يُبعثَ ، وكان عندهم مؤتمناً على نفائس أموالهم؛ لذل خاطبهم الحق تبارك وتعالى بقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
إذن : فالرسول ليس بعيداً عنكم ، ولا مجهولاً لكم ، فمَنْ لم يؤمن به كرسول ينبغي أنْ يؤمن به كأسْوة وقدوة سلوك لسابق تاريخه فيكم .
لذلك نرى أن سيدنا أبا بكر ما انتظر من رسول الله دعوةً ، ولا أنْ يقرأ له قرآناً ، أو يُظهِر له معجزة ، إنما آمن وصدَّق بمجرد أن قال رسول الله ، فما دام قد قال فقد صدق ، ليس بمعجزة رآها أبو بكر ، إنما برصيده القديم في معرفة رسول الله في سلوكه وخُلُقه ، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَدع الكذب على الخَلْق ، ويكذب على الخالق .
وكذلك السيدة خديجة : هل انتظرت من رسول الله ما يُثبت نبوته؟ إنها بمجرد أن قال رسول الله صدَّقتْ به ، ووقفت بجانبه وثبَّتته وهدَّأتْ من روعه ، وقالت له : « والله لا يُسلمك الله أبداً ، إنك لتصِلُ الرحم ، وتحمل الكَلَّ ، وتعين على نوائب الدهر » .
- ومعنى : { مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] من الهجر وهو قَطْع الصلة ، فإنْ كانت من جانب واحد فهي هَجْر ، وإن كانت من الجانبين فهي ( هاجراً ) . والمعنى : أنهم هجروا القرآن ، وقطعوا الصلة بينهم وبينه ، وهذا يعني أنهم انقطعوا عن الألوهية وانقطعوا عن الرسالة المحمدية ، فلم يأخذوا أدلة اليقين العقدية ، وانقطعوا عن الرسالة المحمدية حينما كذَّبوا بها ، وانقطعوا عن الأحكام حينما عَصَوْها ، وبذلك اتخذوا هذا القرآن مهجوراً في كل هذه المسائل : العقائد والعبادات والتصديق بالرسول .
مع أن العرب لو فهموا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] لمجّدوا القرآن وتمسَّكوا به ، فهو الذي عصمهم وعصم لغتهم ، وأعْلَى ذِكْرهم بين الأمم ، ولو أن كل أمة من الأمم المعاصرة أخذتْ لهجتها الخاصة الوطنية ، وجعلت منها لغةً لتلاشت العربية كلغة .
وفي كثير من بلدان الوطن العربي لو حدَّثوك بلهجتهم الخاصة لا تفهم منها شيئاً ، ولولا أن الفُصْحى لغة القرآن تربط بين هذه اللهجات لأصبحتْ كلٌّ منها لغةً خاصة ، كما حدث في اللغات اللاتينية التي تولدت منها الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية ، ولكل منها أسسها وقواعدها الخاصة بها ، وكانت في الأصل لغة واحدة ، إلا أنها لا رابطَ لها من كتاب مقدس .
فالحق تبارك وتعالى يُنبِّههم إلى أن القرآن فيه ذِكْرهم وشرفهم وعزتهم ، وفيه شهرتهم وصيتهم ، فالقرآن جعل العرب على كل لسان ، ولولاه لذابوا بين الأمم كما ذابتْ قبلهم أمم وحضارات لم يسمع عنها أحد .
لذلك يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « إنْ تؤمنوا بما جئت به يكُنْ حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوا عليَّ قولي صبرتُ حتى يحكم الله بيني وبينكم » .
تفسير الطبري
- الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ الرَّسُول يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَقَالَ الرَّسُول يَوْم يَعَضّ الظَّالِم عَلَى يَدَيْهِ : يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِي الَّذِينَ بَعَثْتنِي إِلَيْهِمْ لِأَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدك اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى اتِّخَاذهمُ الْقُرْآن مَهْجُورًا , فَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ اتِّخَاذهمْ ذَلِكَ هَجْرًا , قَوْلهمْ فِيهِ السَّيِّئ مِنَ الْقَوْل , وَزَعْمهمْ أَنَّهُ سِحْر , وَأَنَّهُ شِعْر . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 19994 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء جَمِيعًا , عَنِ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد قَوْله : { اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا } قَالَ : يَهْجُرُونَ فِيهِ بِالْقَوْلِ , يَقُولُونَ : هُوَ سِحْر . 19995 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثني حَجَّاج , عَنِ ابْن جُرَيْج , عَنْ مُجَاهِد , قَوْله : { وَقَالَ الرَّسُول } ... الْآيَة : يَهْجُرُونَ فِيهِ بِالْقَوْلِ . قَالَ مُجَاهِد : وَقَوْله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } 23 67 قَالَ : مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَلَدِ سَامِرًا مَجَالِس تَهْجُرُونَ , قَالَ : بِالْقَوْلِ السَّيِّئ فِي الْقُرْآن غَيْر الْحَقّ . 19996 - حَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ , ثنا هُشَيْم , عَنْ مُغِيرَة , عَنْ إِبْرَاهِيم , فِي قَوْل اللَّه : { إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا } قَالَ : قَالُوا فِيهِ غَيْر الْحَقّ ; أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَرِيض إِذَا هَذَى قَالَ غَيْر الْحَقّ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ : الْخَبَر عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ هَجَرُوا الْقُرْآن وَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 19997 -حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد , فِي قَوْل اللَّه : { وَقَالَ الرَّسُول يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا } لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوهُ , وَإِنْ دُعُوا إِلَى اللَّه قَالُوا لَا . وَقَرَأَ : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } 6 26 قَالَ : يَنْهَوْنَ عَنْهُ , وَيَبْعُدُونَ عَنْهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا الْقَوْل أَوْلَى بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ , وَذَلِكَ هَجْرهمْ إِيَّاهُ .