معنى غراً محجلين من أثر الوضوء
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم .
معنى غرا محجلين
- غرا: غرا جمع أغر أي ذو غرة واصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس ثم استعملت في الشهرة وطيب الذكر.
- ومحجلين: من التحجيل وهو بياض يكون في قوائم الفرس وأصله من الحجل وهو الخلخال.
- والمعنى أن النور يسطع من وجوههم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة وهذا من خصائص هذه الأمة التي جعلها الله عز وجل شهداء على الناس.
شرح حديث غرا محجلين:
- ( أمتي ) أي : أمة الإجابة وهم المسلمون , وقد تطلق أمة محمد ويراد بها أمة الدعوة وليست مرادة هنا.
- ( يدعون ) بضم أوله أي : ينادون أو يسمون.
- ( غرا ) بضم المعجمة وتشديد الراء جمع أغر أي ذو غرة , وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس , ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر , والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم , وغرا منصوب على المفعولية ليدعون أو على الحال , أي : أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف وكانوا على هذه الصفة.
- ( محجلين ) بالمهملة والجيم من التحجيل وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس , وأصله من الحجل بكسر المهملة وهو الخلخال , والمراد به هنا أيضا النور. واستدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة , وفيه نظر لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي , وفي قصة جريج الراهب أيضا أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام , فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء , وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضا مرفوعا قال : "" سيما ليست لأحد غيركم "" وله من حديث حذيفة نحوه. و "" سيما "" بكسر المهملة وإسكان الياء الأخيرة أي : علامة. وقد اعترض بعضهم على الحليمي بحديث "" هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي "" وهو حديث ضعيف كما تقدم لا يصح الاحتجاج به لضعفه ; ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة.
- ( من آثار الوضوء ) بضم الواو , ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد.
- ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) أي : فليطل الغرة والتحجيل. واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى نحو ( سرابيل تقيكم الحر ) واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنثة دون التحجيل وهو مذكر لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء , وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان. على أن في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية ذكر الأمرين , ولفظه "" فليطل غرته وتحجيله "" وقال ابن بطال : كنى أبو هريرة بالغرة عن التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله , وفيما قال نظر لأنه يستلزم قلب اللغة , وما نفاه ممنوع لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلا. ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل.
شرح الشيخ عطية سالم للحديث
هذا الحديث لو أن إنساناً تتبع طرقه واحتواه من جميع جوانبه ودلالاته لخرج برسالة كبيرة، وأوسع من رأيتُ ممن تكلم عليه ابن عبد البر رحمه الله في الجزء العشرين في كلامه على حديث الموطأ بهذا المعنى.
والمؤلف (ابن حجر) رحمه الله ساق الحديث هنا تتمة لأسباغ الوضوء، وليبين لنا أن إسباغ الوضوء يكون معه غرة وتحجيل.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يأتون): (إن) هنا أداة تأكيد، وأداة التأكيد لا تأتي ابتداءً إلا إذا شمت رائحة الإنكار، ولا تُشمُّ رائحة الإنكار إلا عن خبر متقدم، فهل النبي صلى الله عليه وسلم جاء ابتداءً وقال: (إن أمتي يأتون )، أم قال ذلك جواباً في سؤال كان موضع التساؤل؟ ولفظ الحديث أولاً: (إن أمتي )، والأمة المحمدية هي خاتمة الأمم، وهي قسمان -كما يقولون-: - أمة الدعوة، وأمة الإجابة.
والمراد هنا: أمة الإجابة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة) أي: بعد البعث يأتون مع سائر الأمم.
وقوله: (غراً محجلين)
- الغرة: الشعر في ناصية الرأس. وفي الاصطلاح: بياض في جبين الفرس، تجد بعض الخيل تتميز به.
- والتحجيل شعر أبيض في موضع الحجل في يدي الفرس.
- والغرة والتحجيل من علامات فراهة الخيل وأصالتها، فما كل الخيل تأتي غراً محجلة، وهي أبرز علامة يتميز بها الخيل.
وقوله: (غراً محجلين من أثر الوضوء) الوضوء يكون في الوجه واليدين والقدمين، والحديث ذكر البياض في الوجه والقدمين، فيكون أيضاً في اليدين تبعاً لهما، أو أنه يحوي الأطراف، فإذا كانت الغرة في الطرف الأعلى، والتحجيل في الطرف الأسفل فيكون قد حوى ما بينهما.
والغرة والتحجيل شعر أبيض ينبت في هذين المحلين، لكن الغرة والتحجيل في الإنسان ليس شعراً ينبت، ولكن يكون نوراً، كما قال تعالى: { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } [التحريم:8]، فهذا النور من أثر الوضوء.
وقوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) قد يقال فيه: بماذا يطيلها؟ والجواب: يطيلها إما في المشبَّه -وهو أعضاء الوضوء- فيزيد على المفروض في الغسل، أو يسبغ الوضوء أكثرَ.
والظاهر أن الطول والقصر في الزيادة ليس في الكمية، وإنما في الكيف.
عمل أبي هريرة ومن خالفه في ذلك :
- قالوا: كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يغسل يديه إلى المنكب، فقيل: ما هذا يا أبا هريرة ؟ قال: أطيل غرتي وكذلك كان يرفع في غسل القدمين إلى الركبة أو إلى نصف الساق. والمفروض إلى الكعبين، فكان هو يرفعها ويقول: أطيل غرتي.
- وذكر بعض السلف رحمهم الله فقال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فوق سطح المسجد، فغسل إلى كذا، فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين ).
وغرض المؤلف (ابن حجر) التأكيد على استيعاب الفرض، وأنه لا مانع من الزيادة، وبيان خصوصية هذه الأمة.
وبعض الناس يقول: الوضوء خاص بهذه الأمة ولكن لا يصح؛ لأنه قال: ( إن أمتي يأتون ) ومفهوم هذا: أن بعض الأمم الأخرى لا تأتي بهذا، فقالوا: لا وضوء في الأمم الأخرى.
ولكن النصوص جاءت بالوضوء في زمن الأنبياء من قبل، وفي الأمم الماضية فيكون الوضوء ثابتاً للأمم الماضية؛ ولكن آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، فالوضوء تشريع عام في جميع الأمم ولكن ظهور آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة.
وبعض العلماء يقول: هل قوله: (فمن استطاع أن يطيل) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنه مدرج في الحديث من قول أبي هريرة ؟ أي أنه أخذه من قوله: ( أمتي يأتون غراً محجلين )، واستنبط من ذلك أنه كلما طال الغسل في عضو الوضوء طال النور فيه، فقال: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل).
فبعض العلماء يقول: هذه الزيادة مدرجة من أبي هريرة ، وهذا اجتهاد منه لِمَا فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: ( يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء )، ويؤيد أنها مدرجة، ومن فعل أبي هريرة ومن فهمه أنه لم يُنقل عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن رسول الله نفسه أنه جاوز بغسل اليدين المرفق، كما جاء عنه: ( وأدار الماء على مرفقيه ).
أما أن يشرع إلى الساق أو إلى المنكب فلم يأتِ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، ولهذا قالوا: انفرد بهذه الصفة قولاً وفعلاً أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
وإذا كان انفرد بها الصحابي وخالفه الآخرون نقول: هذا عمل شاذ انفرد به، ويبقى العمل على ما ثبت من السنة وعمل جمهور الصحابة، وينتهي غسل اليد إلى المرفق كما في نص الآية الكريمة: { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة:6].
والرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن المرفق داخل في الغسل، لما جاء في الحديث: ( أدار الماء على مرفقيه ) أي: من أول الساعد.
نأتي إلى جو الحديث وما أشرنا إليه من عمومه أو شموله أو سببه:
مناسبة ورود هذا الحديث :
قوله: (إن أمتي يأتون) مناسبة هذا الحديث، ومناسبة مجيء (إن) المؤكدة في أوله ما ذكره مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ومعه بعض أصحابه، فقال: ( السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ...).
يقولون: (إن شاء الله) هنا: ليست للشك ولا للتردد، ولكن للتبرك أو للتأكيد، أو التماس المشيئة بأن اللحاق بهم يكون بهذا البقيع الذي خرج إليه، ويكون هذا مأخوذ من مجموع النصوص التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في رغبته في أن يُدفن في البقيع، أو أن يُدفن بالمدينة، أو نحو ذلك.
كما جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم شهد جنازة، فجلس عندها ونظر في القبر قبل أن تُدخل فيه الجنازة، فجاء رجل ونظر فقال: ( بئس مضجع الرجل فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلتَ قال: يا رسول الله! أردتُ الجهاد في سبيل الله -أي: كون الإنسان يعيش ثم يموت كما تموت بهيمة الأنعام ويُدفن غير محبوب عندي، بل أحَبُّ إليَّ لهذا الرجل أن يذهب ويقاتل ويُستشهد ويدفن في أرض المعركة- فقال صلى الله عليه وسلم: نعم الجهاد ولكن ما من بلد أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها ): أي: من المدينة.
وهنا يقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن شاء الله بكم لاحقون ) والمراد به: في هذه التربة.
فالمشيئة ليست للتردد، أو هي على عموم قوله تعالى: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الكهف:23-24].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله! ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.
أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون من بعدي فيؤمنون بي، وددتُ أني رأيتهم، وأنا فَرَطُهم على الحوض، قالوا: كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره) أي: كيف تعرف من يأتي بعدك وأنت تقول: (وأنا فَرَطُهم على الحوض )، والفَرَط: الذي ينفرط من القوم، مثل العِقد ينقطع منه الخيط، وينفرد الحبل ويسبق، وفَرَطُ القوم: من ينفرد عنهم، ويسبقهم إلى الماء ليهيئ لهم الماء من البئر قبل أن يصلوا.
وهذا سؤال استغراب، لا سؤال استنكار ولا استبعاد، ولكن يُشم منه رائحة الاستيضاح.
فقال هنا: (إن أمتي).
وهناك لفظ آخر يذكره أيضاً مالك أنه قال: ( أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في وسط خيل بهم دهم -والفرس الأدهم: هو الأسود الذي ليس مع سواده لون آخر، والبَهْمُ: يطلق على ولد الغنم الصغير، وسمي بَهماً للإبهام؛ لأنه لا يُفصح، والبَهْمُ: الخيل ذات اللون أيَّاً كان لا يخالطه لون آخر، وليس خاصاً بالسواد- قال: أيعرف خيله؟ قالوا: نعم.
قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ).
فهنا تساءلوا: ( ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.
أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدي، وددتُ لو أني رأيتهم، و ) ابن عبد البر رحمه الله يسوق في التمهيد حوالي ثلاثين صفحة حول هذا المعنى.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا السياق: ( يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يودُّ أحدهم لو رآني بماله وأهله ) وهذه -والله- صحيحة، فكل مسلم الآن يود لو أنه لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقية بعينيه شخصية رسول الله، ولو يفدي ذلك بأهله وماله.
وفي رواية أخرى: ( أيُّ الناس خير -أو أيُّ إيمان الخلق أفضل-؟ قالوا: الملائكة قال: وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والأمر ينزل فوقهم؟! قالوا: الأنبياء، قال: غيرهم.
وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: نحن، لا.
قال: غيركم.
وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! خير الناس إيماناً قومٌ يأتون بعدي يرون أوراقاً مكتوبة يقرأونها فيعملون بها ).
وهناك روايات وآثار وأخبار في هذا المعنى، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد في الجزء العشرين ما يقرب من الثلاثين صفحة في مبحث هذا الحديث.
وعلى هذا فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة ) لم يأتِ ابتداءً، ولكنه في معرض سياق خبر به أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتساءلوا لاستغرابهم فجاءهم هذا الجواب مؤكَّداً بـ(إنَّ) فقال: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين ) أي: فأعرفُهم بهذه العلامة.
وفي تتمة الحديث: ( ليُذادَنَّ رجالٌ من أمتي عن حوضي -أي: يُدفعون ويُحجَبون دون الحوض- فأنادي: أمتي أمتي -أو أنادي: هَلُمَّ هَلُمَّ- فيقال لي -أي: تقول الملائكة-: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً ).
وهذا يذكره ابن كثير أيضاً في تفسير قوله تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم:8].
لأنه في ذلك اليوم يطفأ نور المنافقين وهم في الصراط، كما قال الله عنهم: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [الحديد:13]، فخدعهم الله سبحانه بهذا النور؛ لأنهم خادعوه في الدنيا، كما قال تعالى عنهم: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ } [البقرة:9]، وقال تعالى عنهم: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء:142].
والمخادَعة من المنافقين هي: أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، والمخادَعة هنا أنهم بإظهارهم هذا الدين خلاف ما أخفوا أمِنوا على دمائهم وأنفسهم وأعراضهم، وتزوجوا من المسلمين، وأخذوا في الغنائم حصصاً، فعومِلوا معاملةَ المسلمين، والله أجراها عليهم، مع أنهم في داخلهم لا يستحقون شيئاً من ذلك لكفرهم، فالله خدعهم، فتركهم على ما هم عليه في خداعهم حتى إذا كان يوم القيامة وخرج الناس من قبورهم، وبُعِث المنافقون مع المؤمنين، والجميع غرٌّ محجلون المنافق مع المؤمن الصادق، ومشوا في طريقهم كل بغرته وتحجيله فإذا دنوا من الحوض هناك يكون الحجز، فتأتي ملائكة وترد أولئك الناس، فلا يصلون إلى الحوض، وحينما يُردون تُطفأ أنوارهم، ولذا يقول تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } أي: تبقى على بياضها.
وقال تعالى: { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران:106] أي: يُسلب نورُها، فحينئذٍ يقفون مكانهم ليس عندهم نور يمشون به، فينادون المؤمنين: { انْظُرُونَا } [الحديد:13].
وقولهم: (انظرونا) هو إما من النظر، وإما من الانتظار، فإن كان من النظر فالمعنى التفتوا وراءكم حتى تضيئوا لنا بنور وجوهكم الطريق.
وإن كان من الانتظار فالمعنى: انتظرونا لندرك المشي معكم في ضوء أنواركم.
قال تعالى: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ } [الحديد:13]، فحينئذٍ المؤمنون تقدموا بأنوارهم، والمنافقون -عياذاً بالله- رجعوا وانطفأت أنوارهم، وبقي المؤمنون على حذر يخافون أن تأتي عقبة أخرى تكون فيها تصفية ثانية، فيدعون كما قال تعالى عنهم: { يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } [التحريم:8] أي: ابقِ لنا هذا النور يا رب، فأنت أطفأته عن أقوام، ونحن نخشى أن تكون هناك عملية تصفية أخرى، ويُطفأ عن بعضنا الأنوار، فيسألون الله ويدعونه بإلحاح قائلين: { أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } [التحريم:8].
فالحديث -كما أشرت- آفاقه واسعة، ومواقفه عديدة، فلو أن إنساناً تتبع وأخذ كل جزئية منه بحديث متوسع متوفر لخرج من الحديث برسالة كاملة.
ونحن الآن في الوقت الحاضر -بصرف النظر عن فعل أبي هريرة في كونه يطيل الغرة، إذ علينا بالسنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- نستطيع أن نسلي أنفسنا بأن هذه بشرى لنا، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمتدح أقواماً يأتون بعده ولم يروه، ويؤمنون به على غيب يرونه في أوراق مكتوبة.
وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا حفظه الله يقرؤه المسلم، ويؤمن بحميع ما فيه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( وددتُ لو أني رأيتهم )، ويشهد لهم بأن الواحد منهم يود لو ضحى بأهله وماله ليراه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأوراق التحذير من النفاق والابتداع، ومن التغيير والتبديل، حتى لا يُذاد عن ذلك الحوض الكريم، وهو الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.